فصل: قال ابن العربي في الآيتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن العربي في الآيتين:

قَوْله تعالى: {إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ}.
فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:

.المسألة الْأُولَى: [في الاشتراط للرب والاشتراط للنفس]:

رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اشْتَرِطْ لِرَبِّك وَلِنَفْسِك مَا شِئْت.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ».
قَالَ: فَإِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ فَمَا لَنَا؟ قَالَ: «الْجَنَّةُ».
قَالَ: رَبِحَ الْبَيْعُ.
قَالَ: لَا نُقِيلُ وَلَا نَسْتَقِيلُ فَنَزَلَتْ: {إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} وَهَذَا مِمَّا لَا يُوجَدُ صَحِيحًا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: ذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، وَذَهَبَ مَعَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: تَكَلَّمُوا يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، وَأَوْجِزُوا؛ فَإِنَّ عَلَيْنَا عُيُونًا قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَخَطَبَ أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ خُطْبَةً مَا خَطَبَ الْمُرْدُ وَلَا الشِّيبُ مِثْلَهَا قَطُّ.
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ اشْتَرِطْ لِرَبِّك، وَاشْتَرِطْ لِنَفْسِك، وَاشْتَرِطْ لِأَصْحَابِك.
قَالَ: أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مَا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ، وَأَشْتَرِطُ ِأَصْحَابِي الْمُوَاسَاةَ فِي ذَاتِ أَيْدِيكُمْ.
قَالُوا: هَذَا لَك، فَمَا لَنَا؟ قَالَ: الْجَنَّةُ.
قَالَ: اُبْسُطْ يَدَك.
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَقْطُوعًا فَإِنَّ مَعْنَاهُ ثَابِتٌ مِنْ طُرُقٍ.

.المسألة الثَّانِيَةُ: [في جَوَازِ مُعَامَلَةِ السَّيِّدِ مَعَ عَبْدِهِ]:

فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَوَازُ مُعَامَلَةِ السَّيِّدِ مَعَ عَبْدِهِ، وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ لِلسَّيِّدِ، لَكِنْ إذَا مَلَكَهُ وَعَامَلَهُ فِيمَا جُعِلَ إلَيْهِ وَتَاجَرَهُ بِمَا مَلَّكَهُ مِنْ مِلْكِهِ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ لِلَّهِ، وَالْعِبَادُ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ لِلَّهِ، وَأَمَرَهُمْ بِإِتْلَافِهَا فِي طَاعَتِهِ، وَإِهْلَاكِهَا فِي مَرْضَاتِهِ، وَأَعْطَاهُمْ الْجَنَّةَ عِوَضًا عَنْهَا إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فِيهَا.
وَهُوَ عِوَضٌ عَظِيمٌ، لَا يُدَانِيهِ مُعَوَّضٌ وَلَا يُقَاسُ بِهِ؛ وَلِهَذَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: ثَامِنَهُمْ وَاَللَّهِ وَأَغْلَى الثَّمَنَ، يُرِيدُ أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ أَكْثَرَ مِمَّا يَجِبُ لَهُمْ فِي حُكْمِ الْمُتَاجَرَةِ، وَلَمْ يَأْتِ الرِّبْحُ عَلَى مِقْدَارِ الشِّرَاءِ؛ بَلْ زَادَ عَلَيْهِ وَأَرْبَى.

.المسألة الثَّالِثَةُ: [الشراء من الأطفال]:

قَالَ عُلَمَاؤُنَا: كَمَا اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْبَالِغِينَ الْمُكَلَّفِينَ كَذَلِكَ اشْتَرَى مِنْ الْأَطْفَالِ، فَآلَمَهُمْ وَأَسْقَمَهُمْ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ، وَمَا فِيهِ مِنْ الِاعْتِبَارِ لِلْبَالِغِينَ، وَالثَّوَابِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْكَافِلَيْنِ فِيمَا يَنَالُهُمْ مِنْ الْهَمِّ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِمْ مِنْ التَّرْبِيَةِ وَالْكَفَالَةِ؛ وَهَذَا بَدِيعٌ فِي بَابِهِ مُوَافِقٌ لِمَا تَقَدَّمَ قَبْلَهُ؛ فَإِنَّ الْبَالِغَ يَمْشِي إلَى الْقَتْلِ مُخْتَارًا، وَالطِّفْلَ يَنَالُهُ الْأَلَمُ اقْتِسَارًا.

.المسألة الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ}:

إخْبَارٌ مِنْ اللَّهِ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ، وَقُلْنَا: إنَّ الْجِهَادَ وَمُحَارَبَةَ الْأَعْدَاءِ إنَّمَا أَصْلُهُ مِنْ عَهْدِ مُوسَى، فَسُبْحَانَ الْفَعَّالِ لِمَا يُرِيدُ.

.المسألة الْخَامِسَةُ: قَالَ: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ}:

الْعَهْدُ يَتَضَمَّنُ الْوَفَاءَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ، وَلابد مِنْ وَفَاءِ الْبَارِي تَعَالَى بِالْكُلِّ، فَأَمَّا وَعْدُهُ فَلِلْجَمِيعِ، وَأَمَّا وَعِيدُهُ فَمَخْصُوصٌ بِبَعْضِ الْمُذْنِبِينَ وَبِبَعْضِ الذُّنُوبِ، وَفِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، فَيَنْفُذُ كَذَلِكَ.
وَقَدْ فَاتَ عُلَمَاءَنَا هَذَا الْمِقْدَارُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ.

.المسألة السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: {التَّائِبُونَ}:

الرَّاجِعُونَ عَنْ الْحَالَةِ الْمَذْمُومَةِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ إلَى الْحَالَةِ الْمَحْمُودَةِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ.
وَالْعَابِدُونَ: هُمْ الَّذِينَ قَصَدُوا بِطَاعَتِهِمْ وَجْهَهُ.
وَالْحَامِدُونَ: هُمْ الرَّاضُونَ بِقَضَائِهِ، وَالْمُصَرِّفُونَ نِعْمَتَهُ فِي طَاعَتِهِ.
وَالسَّائِحُونَ: هُمْ الصَّائِمُونَ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ، حَتَّى فَسَدَ الزَّمَانُ فَصَارَتْ السِّيَاحَةُ الْخُرُوجَ مِنْ الْأَرْضِ عَنْ الْخَلْقِ، لِعُمُومِ الْفَسَادِ وَغَلَبَةِ الْحَرَامِ، وَظُهُورِ الْمُنْكَرِ، وَلَوْ وَسِعَتْنِي الْأَرْضُ لَخَرَجْت فِيهَا، لَكِنَّ الْفَسَادَ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهَا، فَفِي كُلِّ وَادٍ بَنُو نَحْسٍ، فَعَلَيْك بِخُوَيْصَةِ نَفْسِك وَدَعْ أَمْرَ الْعَامَّةِ.
الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ هُمْ الْقَائِمُونَ بِالْفَرْضِ مِنْ الصَّلَاةِ، الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنْكَرِ، الْمُغَيِّرُونَ لِلشِّرْكِ فَمَا دُونَهُ مِنْ الْمَعَاصِي، وَالْآمِرُونَ بِالْإِيمَانِ فَمَا دُونَهُ مِنْ الطَّاعَاتِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ شُرُوطِهِ.
الْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ: خَاتِمَةُ الْبَيَانِ وَعُمُومُ الِاشْتِمَالِ لِكُلِّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ.
وَقَوْلُهُ: {وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ} بِثَوَابِي إذَا كَانُوا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، ثُمَّ بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ فِي طَاعَتِي لِلْقَتْلِ؛ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ سِلْعَةً مَرْغُوبًا فِيهَا تَمْتَدُّ إلَيْهَا الْأَطْمَاعُ، وَتَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ التِّجَارَاتِ وَالْمَتَاعِ، فَأَمَّا نَفْسٌ لَا تَكُونُ هَكَذَا، وَلَا تَتَحَلَّى بِهَذِهِ الْحِلَى فَلَا يُبْذَلُ فِيهَا فَلْسٌ، فَكَيْفَ الْجَنَّةُ؟ لَكِنَّ مَنْ مَعَهُ أَصْلُ الْإِيمَانِ فَهُوَ مُبَشَّرٌ عَلَى قَدْرِهِ بِعَدَمِ الْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَمَنْ اسْتَوْفَى هَذِهِ الصِّفَاتِ فَلَهُ الْفَوْزُ قَطْعًا، وَمَنْ خَلَطَ فَلَا يَقْنَطْ وَلَا يَأْمَنْ، وَلْيُمْسِ تَائِبًا، وَيُصْبِحْ تَائِبًا، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَسَائِلًا لِلتَّوْبَةِ، فَإِنَّ سُؤَالَهَا دَرَجَةٌ عَظِيمَةٌ، حَتَّى يَمُنَّ اللَّهُ بِحُصُولِهَا.
فَهَذِهِ سَبْعُ مَسَائِلَ تَمَامُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِي الْآيَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيتين:

{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} لما شرح فضائح المنافقين وقبائحهم بسبب تخلفهم عن غزوة تبوك، وذكر أقسامهم، وفرّع على كل قسم منها ما هو لائق به، عاد على بيان فضيلة الجهاد والترغيب فيه، وذكر الشراء تمثيل، كما في قوله: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} [البقرة: 16] مثل سبحانه إثابة المجاهدين بالجنة على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيل الله بالشراء، وأصل الشراء بين العباد هو: إخراج الشيء عن الملك بشيء آخر مثله أو دونه، أو أنفع منه، فهؤلاء المجاهدون باعوا أنفسهم من الله بالجنة التي أعدها للمؤمنين، أي: بأن يكونوا من جملة أهل الجنة، وممن يسكنها فقد جادوا بأنفسهم، وهي أنفس الأعلاق، والجود بها غاية الجود:
يجود بالنفس أن ضنّ الجبان بها ** والجود بالنفس أقصى غاية الجود

وجاد الله عليهم بالجنة، وهي أعظم ما يطلبه العباد، ويتوسلون إليه بالأعمال؛ والمراد بالأنفس هنا: أنفس المجاهدين، وبالأموال: ما ينفقونه في الجهاد.
قوله: {يقاتلون في سَبِيلِ الله} بيان للبيع الذي يقتضيه الاشتراء المذكور، كأنه قيل: كيف يبيعون أنفسهم وأموالهم بالجنة؟ فقيل: يقاتلون في سبيل الله، ثم بيّن هذه المقاتلة في سبيل الله بقوله: {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} والمراد أنهم: يقدمون على قتل الكفار في الحرب، ويبذلون أنفسهم في ذلك، فإن فعلوا فقد استحقوا الجنة، وإن لم يقع القتل عليهم بعد الإبلاء في الجهاد، والتعرّض للموت بالإقدام على الكفار.
قرأ الأعمش والنخعي وحمزة والكسائي وخلف بتقديم المبنيّ للمفعول على المبنيّ للفاعل.
وقرأ الباقون بتقديم المبني للفاعل على المبني للمفعول.
وقوله: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي التوراة والإنجيل والقرءان} إخبار من الله سبحانه أن فريضة الجهاد واستحقاق الجنة بها قد ثبت الوعد بها من الله في التوراة والإنجيل، كما وقع في القرآن، وانتصاب و{عدًا} و{حقًا} على المصدرية أو الثاني: نعت للأوّل، و{في التوراة} متعلق بمحذوف: أي وعدًا ثابتًا فيها.
قوله: {وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله} في هذا من تأكيد الترغيب للمجاهدين في الجهاد، والتنشيط لهم على بذل الأنفس والأموال، ما لا يخفى، فإنه أوّلًا أخبر بأنه قد اشترى منهم أنفسهم، وأموالهم، بأن لهم الجنة، وجاء بهذه العبارة الفخيمة، وهي كون الجنة قد صارت ملكًا لهم، ثم أخبر ثانيًا بأنه قد وعد بذلك في كتبه المنزّلة، ثم أخبر بأنه بعد هذا الوعد الصادق، لابد من حصول الموعود به، فإنه لا أحد أوفى بعهده من الله سبحانه، وهو صادق الوعد لا يخلف الميعاد، ثم زادهم سرورًا وحبورًا، فقال: {فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ} أي: أظهروا السرور بذلك، والبشارة هي إظهار السرور، وظهوره يكون في بشرة الوجه، ولذا يقال: أسارير الوجه: أي التي يظهر فيها السرور.
وقد تقدّم إيضاح هذا، والفاء لترتيب الاستبشار على ما قبله.
والمعنى: أظهروا السرور بهذا البيع الذي بايعتم به الله عزّ وجلّ، فقد ربحتم فيه ربحًا لم يربحه أحد من الناس، إلا من فعل مثل فعلكم، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى الجنة، أو إلى نفس البيع الذي ربحوا فيه الجنة، ووصف الفوز وهو الظفر بالمطلوب بالعظم، يدل على أنه فوز لا فوز مثله.
قوله: {التائبون} خبر مبتدأ محذوف: أي هم التائبون، يعني: المؤمنون، والتائب الراجع: أي هم الراجعون إلى طاعة الله عن الحالة المخالفة للطاعة.
وقال الزجاج: الذي عندي أن قوله: {التائبون العابدون} رفع بالابتداء وخبره مضمر: أي التائبون، ومن بعدهم إلى آخر الآية لهم الجنة أيضًا، وإن لم يجاهدوا.
قال: وهذا أحسن، إذ لو كانت هذه أوصافًا للمؤمنين المذكورين في قوله: {اشترى مِنَ المؤمنين} لكان الوعد خاصًا بمجاهدين.
وقد ذهب إلى ما ذهب إليه الزجاج من أن هذا الكلام منفصل عما قبله طائفة من المفسرين، وذهب آخرون إلى أن هذه الأوصاف راجعة إلى المؤمنين في الآية الأولى، وأنها على جهة الشرط: أي لا يستحق الجنة بتلك المبايعة إلا من كان من المؤمنين على هذه الأوصاف.
وفي مصحف عبد الله بن مسعود: التائبين العابدين إلى آخرها وفيه وجهان: أحدهما: أنها أوصاف للمؤمنين.
الثاني: أن النصب على المدح.
وقيل: إن ارتفاع هذه الأوصاف على البدل من ضمير {يقاتلون}، وجوز صاحب الكشاف أن يكون {التائبون} مبتدأ، وخبره {العابدون}، وما بعده أخبار، كذلك أي: التائبون من الكفر على الحقيقة، الجامعون لهذه الخصال، وفيه من البعد ما لا يخفى، والعابدون القائمون بما أمروا به من عبادة الله مع الإخلاص.
و{الحامدون} الذين يحمدون الله سبحانه على السرّاء والضرّاء، و{السائحون} قيل: هم الصائمون، وإليه ذهب جمهور المفسرين، ومنه قوله تعالى: {عابدات سائحات} [التحريم: 5] وإنما قيل للصائم سائح؛ لأنه يترك اللذات، كما يتركها السائح في الأرض، ومنه قول أبي طالب بن عبد المطلب:
وبالسائحين لا يذوقون فطرة ** لربهم والراكدات العوامل

وقال آخر:
تراه يصلي ليله ونهاره ** يظل كثير الذكر لله سائحا

قال الزجاج: ومذهب الحسن أن السائحين هاهنا هم الذين يصومون الفرض، وقيل: إنهم الذين يديمون الصيام.
وقال عطاء: السائحون المجاهدون.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: السائحون: المهاجرون.
وقال عكرمة: هم الذين يسافرون لطلب الحديث والعلم.
وقيل: هم الجائلون بأفكارهم في توحيد ربهم وملكوته، وما خلق من العبر.
والسياحة في اللغة أصلها: الذهاب على وجه الأرض كما يسيح الماء، وهي مما يعين العبد على الطاعة لانقطاعه عن الخلق، ولما يحصل له من الاعتبار بالتفكر في مخلوقات الله سبحانه، و{الركعون الساجدون} معناه: المصلون، و{الآمرون بالمعروف} القائمون بأمر الناس بما هو معروف في الشريعة {والناهون عَنِ المنكر} القائمون بالإنكار على من فعل منكرًا: أي شيئًا ينكره الشرع {والحافظون لِحُدُودِ الله} القائمون بحفظ شرائعه التي أنزلها في كتبه، وعلى لسان رسله، وإنما أدخل الواو في الوصفين الآخرين، وهما: {والناهون عَنِ المنكر والحافظون} الخ، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنزلة خصلة واحدة، ثم عطف عليه الحافظون بالواو لقربه.